هل الصحابة عدول
اتخذ الطعن في السنة أشكالاً متعددة ، وطرقاً متنوعة ، فتارة عن طريق الطعن في حجيتها ومكانتها ، وتارة عن طريق الطعن في الأسانيد والتقليل من شأنها ، وتارة عن طريق الطعن في منهج المحدثين في النقد والجرح والتعديل ، وتارة عن طريق الطعن في المرويات بالتشكيك فيها وادعاء التناقض والتعارض بينها ، إلى غير ذلك من مطاعن سبق الحديث عنها في مواضيع سابقة .
*ومن تلك الوسائل التي اتخذها أعداء الإسلام للطعن في السنة وإسقاط الثقة بها ، الطعن في حَملة الأحاديث ورواة السنن من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى شككوا في عدالة الصحابة عموماً ، وكالوا التهم والافتراءات لبعضهم على وجه الخصوص ، وغرضهم من ذلك تقويض صرح الإسلام ، وزعزعة الثقة بأصوله ، فإن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين أبلغونا هذا الدين ، وإذا زالت الثقة عنهم أصبح كل الذي بين أيدينا مشكوكاً فيه ، ورحم الله الإمام أبا زرعة الرازي حين قال : " إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حق ، والقرآن حق ، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولى, وهم الزنادقة " أهـ .
فقد نسب المستشرقون الوضع في الأحاديث إلى رجال الإسلام القدامى ، ويعنون بذلك جيل الصحابة ، يقول المستشرق اليهودي " جولد زيهر " : " ولا نستطيع أن نعزو الأحاديث الموضوعة للأجيال المتأخرة وحدها ، بل هناك أحاديث عليها طابع القدم ، وهذه إما قالها الرسول أو هي من عمل رجال الإسلام القدامى " ، ثم قال : " وقد اعترف أنس بن مالك الذي صاحب الرسول عن قرب عشر سنوات ، عندما سئل عما يحدث عن النبي هل حدثه به فعلاً فقال : " ليس كل ما حدثنا به سمعناه عن النبي ولكننا لا نكذب بعضنا " .
وطالب من تبعهم من المستغربين بعدم تمييز الصحابة عن غيرهم ، ووضعهم في ميزان النقد والجرح والتعديل كما يوضع غيرهم .
فقال " أبو رية " في كتابه " أضواء على السنة المحمدية " : إنهم - أي العلماء - قد جعلوا جرح الرواة وتعديلهم واجباً تطبيقه على كل راوٍ مهما كان قدره - فإنهم قد وقفوا دون عتبة الصحابة فلم يتجاوزوها ، إذ اعتبروهم جميعاً عدولاً لا يجوز عليهم نقد ، ولا يتجه إليهم تجريح ، ومن قولهم في ذلك : " إن بساطهم قد طوي " وقال أيضاً : " إذا كان الجمهور على أن الصحابة كلهم عدول ، ولم يقبلوا الجرح والتعديل فيهم كما قبلوه في سائر الرواة ، واعتبروهم جميعاً معصومين من الخطأ والسهو والنسيان ، فإن هناك كثيراً من المحققين لم يأخذوا بهذه العدالة المطلقة ، وإنما قالوا كما قال العلامة المقبلي : إنها أغلبية لا عامة ، وأنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من الغلط والنسيان والسهو ، بل والهوى ، ويؤيدون رأيهم بأن الصحابة إن هم إلا بشر يقع منهم ما يقع من غيرهم ، مما يرجع إلى الطبيعة البشرية ، وأن سيدهم الذي اصطفاه الله صلوات الله عليه - والله أعلم حيث يجعل رسالته - قد قال : ((إنما أنا بشر أصيب وأخطئ )) ، ويعززون حكمهم بمن كان منهم في عهده صلوات الله عليه من المنافقين والكاذبين ، وبأن كثيراً منهم قد ارتد عن دينه بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى ، بله ما وقع من الحروب والفتن التي أهلكت الحرث والنسل ، ولا تزال آثارها ولن تزال إلى اليوم وما بعد اليوم ، وكأن الرسول صلوات الله عليه قد رأى بعيني بصيرته النافذة ما سيقع من أصحابه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، فقال في حجة الوداع : " (( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )) ، وروى البخاري عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنكم تحشرون حفاة عراة ، وإن ناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : أصحابي ، أصحابي ، فيقول : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ، فأقول كما قال العبد الصالح :{وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم }(المائدة 117) .
وقال " أحمد أمين " في " فجر الإسلام " : " وأكثر هؤلاء النقاد - أي نقاد الحديث - عدلوا الصحابة كلهم إجمالا وتفصيلاً ، فلم يتعرضوا لأحد منهم بسوء ، ولم ينسبوا لأحد منهم كذباً ، وقليل منهم من أجرى على الصحابة ما أجرى على غيرهم ...... إلى أن قال : وعلى كلٍّ فالذي جرى عليه العمل من أكثر نقاد الحديث - وخاصة المتأخرين - على أنهم عدلوا كل صحابي ، ولم يرموا أحداً منهم بكذب ، ولا وضع ، وإنما جرحوا من بعدهم " ، وقال في موضع آخر : " ويظهر أن الصحابة أنفسهم في زمنهم كان يضع بعضهم بعضاً موضع النقد ، وينزلون بعضاً منزلة أسمى من بعض ، فقد رأيت قبل أن منهم من كان إذا روي له حديث طلب من المحدثين برهاناً " أهـ .
وللجواب على هذه الشبهة نقول : إن تعديل الصحابة رضي الله عنهم وتنزيههم عن الكذب والوضع ، هو مما اتفق عليه أئمة الإسلام ونقاد الحديث من أهل السنة والجماعة ، ولا يعرف من طعن فيهم وشكك في عدالتهم إلا الشذاذ من أصحاب الأهواء والفرق الضالة المنحرفة ممن لا يلتفت إلى أقوالهم ، ولا يعتد بها في خلاف ولا وفاق .
كيف وقد عدلهم الله في كتابه ، وأثنى عليهم ومدحهم في غير ما آية فقال جل وعلا : {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود .....الآية }(الفتح 29) ، وقال سبحانه : {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم }( التوبة 100) ، وقال : { لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون }( التوبة 88) ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تزكيهم ، وتشيد بفضلهم ومآثرهم ، وصدق إيمانهم وإخلاصهم ، وأي تزكية بعد تزكية الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ؟! .
كما عدلهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبين منزلتهم ، ودعا إلى حفظ حقهم وإكرامهم ، وعدم إيذائهم بقول أو فعل ، فقال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) ، وقال : ( لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) أخرجاه في الصحيحين ، وقال أيضاً : ( الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه ) ، رواه الترمذي .
وأجمع المسلمون من أهل السنة والجماعة على عدالتهم وفضلهم وشرفهم ، وإليك طرفاً من أقوال أئمة الإسلام وجهابذة النقاد فيهم ، قال ابن عبد البر رحمه الله كما في الاستيعاب : " قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول " .
وقال ابن الصلاح في مقدمته : " ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة ، ومن لابس الفتنة منهم فكذلك ، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع ، إحساناً للظن بهم ، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر ، وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة " أهـ .
وقال الإمام الذهبي : " فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي ، وإن جرى ما جرى ..... ، إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل ، وبه ندين الله تعالى " .
وقال ابن كثير : " والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة " ثم قال : " وقول المعتزلة : الصحابة كلهم عدول إلا من قاتل علياً قول باطل مردود " ، ثم قال : " وأما طوائف الروافض وجهلهم وقلة عقلهم ، ودعاويهم أن الصحابة كفروا إلا سبعة عشر صحابياً - وسموهم- فهذا من الهذيان بلا دليل " .
على أنه - كما قال الخطيب في الكفاية - لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شيء مما ذكر لأوجب الحال التي كانوا عليها - من الهجرة ، وترك الأهل والمال والولد ، والجهاد ونصرة الإسلام ، وبذل المهج وقتل الآباء والأبناء في سبيل الله - القطع بتعديلهم واعتقاد نزاهتهم وأمانتهم ، وأنهم كانوا أفضل من كل من جاء بعدهم
والطعن في الصحابة رضي الله عنهم طعن في مقام النبوة والرسالة ، فإن كل مسلم يجب أن يعتقد بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أدى الأمانة وبلغ الرسالة ، وقام بما أمره الله به ، ومن ذلك أنه بلغ أصحابه العلم وزكاهم ورباهم على عينه ، قال عز وجل: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } (الجمعة:2) ، والحكم بعدالتهم من الدين ، ومن الشهادة بأن - الرسول صلى الله عليه وسلم - قام بما أمره الله به ، والطعن فيهم يعني الطعن بإمامهم ومربيهم ومعلمهم صلى الله عليه وسلم ، كما أن الطعن فيهم مدخل للطعن في القرآن الكريم ، فأين التواتر في تبليغه ؟ وكيف نقطع بذلك إذا كانت عدالة حملته ونقلته مشكوكاً فيها ؟!.
وأما الزعم بأن أكثر النقاد عدَّلوا الصحابة مغالطة وتلبيس ، لأن النقاد كلهم قالوا بتعديل الصحابة وليس أكثرهم ، والذين تكلموا في الصحابة ليسوا من نقاد الحديث ، بل من أصحاب الميول المعروفة في التاريخ الإسلامي بالتعصب والهوى والابتداع في الدين ، لتمرير بدعهم وترويج انحرافهم ، حيث لم يجدوا لذلك سبيلاً إلا بالطعن في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
صحيح أن الصحابة رضي الله عنه كانوا بشراً ، وليسوا بالمعصومين ، لكنهم كانوا في القمة ديناً وخلقاً ، وصدقاً وأمانة ، والذين قالوا : إن الصحابة عدول ، لم يقولوا قط إنهم معصومون من المعاصي ، ولا من الخطأ والسهو والنسيان ، وإنما أثبتوا لهم حالة من الاستقامة في الدين تمنعهم من تعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
حتى الذين أقيم عليهم حدُُّ أو قارفوا ذنباً وتابوا منه ، لا يمكن أن يتعمدوا الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهؤلاء قلة نادرة لا ينبغي أن يغلب شأنهم وحالهم على حال الألوف المؤلفة من الصحابة ، الذين جانبوا المآثم والمعاصي لا سيما الكبائر منها .
وأما الذين لابسوا الفتن فكانوا مجتهدين يعتقد كل منهم أن الحق معه ، وعليه أن يدافع عنه ، والمجتهد مأجور على اجتهاده أخطأ أم أصاب ، ومع ذلك فهم قليل جداً بالنسبة لأكثر الصحابة الذين اعتزلوا هذه الفتن ، كما قال محمد بن سيرين : " هاجت الفتن وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف فما خف لها منهم مائة ، بل لم يبلغوا ثلاثين " .
ولا يلتفت إلى استشهاد أبي رية بكلام " المقبلي " لأن " المقبلي " نشأ في بيئة اعتزالية المعتقد ، هادوية الفقه ، شيعية تشيعاً مختلفاً ، يغلظ فيه أناس ويخف آخرون ، فجاء حكمه متأثراً بتلك الأجواء التي عاشها ، والبيئة التي تربى فيها ، وقد بين ذلك العلامة المعلمي رحمه الله في الأنوار الكاشفة .
ونحن حينما نصف صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما هم له أهل ، فإنما نريد صحابته المخلصين الذين أخلصوا دينهم ، وثبتوا على إيمانهم ، ولم يغمطوا بكذب أو نفاق ، فالمنافقون الذين كشف الله سترهم ، ووقف المسلمون على حقيقة أمرهم ، والمرتدون الذين ارتدوا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بعده ، ولم يتوبوا أو يرجعوا إلى الإسلام ، وماتوا على ردتهم ، هؤلاء وأولئك لا يدخلون في هذا الوصف إطلاقاً ، ولا تنطبق عليهم هذه الشروط أبداً ، وهم بمعزل عن شرف الصحبة ، وبالتالي هم بمعزل عن أن يكونوا من المرادين بقول العلماء والأئمة : " إنهم عدول " ، وفي تعريف العلماء للصحابي ما يبين ذلك بجلاء ، حيث عرفوه بأنه من لقي - النبي صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على ذلك .
وأما الزعم بأن الصحابة - أنفسهم في زمنهم - كان يضع بعضهم بعضاً موضع النقد ، وينزلون بعضاً منزلة أسمى من بعض ، وهو يعني بعض المراجعات التي كانت تدور بينهم حول بعض الأحاديث ، فلم يكن ذلك عن تكذيب منهم للآخر كما جاء عن أنس رضي الله عنه : " لم يكن يكذب بعضنا بعضاً " ، بل كانت الثقة متوفرة بينهم ، ولكنهم بشر لم يخرجوا عن بشريتهم ، فلا يمنع أن يراجع بعضهم بعضاً في بعض الأمور والأحكام ، إما للتثبت والتأكد ، لأن الإنسان قد ينسى أو يسهو أو يغلط عن غير قصد ، ومن ذلك ما ثبت من مراجعة الخليفتين أبي بكر و عمر رضي الله عنهما لبعض الصحابة في بعض مروياتهم ، وطلبهم شاهداً ثانياً ، فلم يكن ذلك منهم عن تهمة ولا تجريح ، وإنما هو لزيادة اليقين والتثبت في الرواية ، وليقتدي بهم في ذلك من بعدهم ، وليس أدل على ذلك من قول عمر رضي الله عنه ، لأبي موسى الأشعري - وقد طلب منه أن يأتي بمن يشهد معه على سماعه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما إني لم أتهمك ولكنه الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقد تكون هذه المراجعة لأنه ثبت عند الصحابي ما يخالف الحديث ، أو ما يخصصه أو يقيده ، أو لأنه رأى مخالفته لظاهر القرآن ، أو لظاهر ما حفظه من سنة إلى غير ذلك ، وما دار بينهم من مراجعات مدون ومحصور في كتب الحديث ، ومشفوع بأجوبته ، وهم فيها بين مصيب له أجران ، ومخطئ له أجر واحد .
فليس من الإنصاف إذاً ، أن تُجعل هذه المراجعات دليلاً على اتهام الصحابة بعضهم لبعض ، وتكذيب بعضهم لبعض كما يزعم المرجفون .
إذاً فتعديل الصحابة رضي الله عنهم أمر متفق عليه بين المسلمين ، ولا يطعن فيهم إلا من غُمص في دينه وعقيدته ، ورضي بأن يسلم عقله وفكره لأعدائه ، معرضاً عن كلام الله وكلام رسوله وإجماع أئمة الإسلام ___________
المراجع :
- دفاع عن السنة د. محمد أبو شهبة .
- منهج المدرسة العقلية الأمين الصادق الأمين .
- السنة ومكانتها في التشريع د.مصطفى السباعي .
- الحديث والمحدثون محمد أبو زهو .
---------------------------------------------------------------------------
هل كان الصحابة عدولاً بأجمعهم؟
من غير الخفي أن في الصحابة طائفة من المؤمنين المخلصين بدرجاتهم المختلفة، وفيهم المسلمون، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، وفيهم المنافقون وهم عدد غير قليل، وفيهم المؤلفة قلوبهم، وفيهم مَن نزل القرآن بفسقه، وفيهم مَن تخلف عن جيش أسامة فلعنهم رسول الله (ص)، وفيهم مَن أقيم عليه الحد الشرعي لارتكابه ما يوجب الحد في زمن النبي (ص)، وفيهم مَن ارتد عن دينه، وفيهم مّن ولي الدبر في الحرب، وقد قال الله تعالى: (ومَن يولّهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) الأنفال/ 16.
وقد فروا يوم أحد جميعاً وولوا الدبر إلا عدة معدود. وخالف جماعة منهم ـ أي من الصحابة ـ أمر رسول الله (ص) ـ وفيهم كبار الصحابة رضي الله عنهم ـ ولم يبق معه إلا نفر من آل عبدالمطلب، وعدد قليل من الأنصار، منهم أم الحارث الأنصارية (رض) وكانت تستأذن رسول الله (ص) في قتل الفارّين، وهي التي اعترضت عمر بن الخطاب وهو فار فقالت له: يا عمر ما هذا؟! فقال: أمر الله. أي قضاء الله وقدره!!
ومع كل ذلك فإن القول بعدالة الصحابة جميعاً ـ كما ذهب إليه أهل الحديث، ثم جعل ذلك من العقائد كما فعله الإمام أحمد بن حنبل وغيره ـ يعتبر غفلة قبيحة، لما فيه من طرح المقاييس الدينية والعقلية، ولأن ذلك مما يأباه تاريخ الصحابة وواقع ما جرى بينهم، وما صدر منهم، وهو أمر مستحدث، أتى به أهل الحديث، وهم المغرمون بحب معاوية وأذنابه، والمدافعون عنهم، أمثال عمرو بن العاص، وبسر بن أرطاة، وسمرة بن جندب، ومَن هم على شاكلته.
لقد جاء أهل الحديث بهذا الأمر في قرون متأخرة، فأعطوا الصحابة جميعاً مرتبة العدالة لتشمل معاوية وأحزابه، ولتبرر الكثير من الفظائع التي ارتكبوها والحرمات التي انتهكوها ..
والحقيقة هي أن نزعة النصب الغالبة على أكثرية أهل الحديث، هي التي دعتهم إلى وضع هذه المقالة الجديدة، بحيث تشمل الصحابة جميعاً.
ـ اجتهاد معاوية وأضرابه:
ثم تقدم أهل الحديث شوطاً آخر في هذه العقيدة الجديدة، وذلك عندما منحوا معاوية وأشباهه رتبة الاجتهاد، في نفس الوقت الذي لا يخطر في بال أحد من هؤلاء ـ معاوية وأضرابه ـ طيلة حياتهم أن يثبتوا هذه الرتبة لأنفسهم، ولكنها منحت لهم بعد موتهم كالأوسمة والرتب التي تعطيها وزارة الدفاع للضباط المقتولين، بعد أن لم يكونوا يلمون بها في حياتهم على الإطلاق.
ثم غلوا فيهم وجعلوا آراءهم حجة على الناس إلى يوم القيامة، وجعلوا لهم حق التشريع في الدين، وجعلوا لهم سنناً كسنن رسول الله (ص).
وما أنسب ما نحن فيه بقول الشاعر في سمية أم زياد بن أبيه، لما استلحق معاوية ابنها زياداً بأبي سفيان، حيث قال:
عاشت سمية دهراً وهي ما علمت
إن ابنها من قريش في الجماهير
وأما الاستدلال على عدالة الصحابة جميعاً بقولهم: ((إنهم شاهدوا نور النبوة، فعصمتهم من الاقتحام في الذنب)) فهو دليل غير متماسك، وهو يناسب شطحات الصوفية، فلم لم تمنع مشاهدة نور النبوة تلك الطوائف المتقدم ذكرها ـ أعني المنافقين، والمؤلفة قلوبهم، ومَن ارتدوا الخ .. ـ في عصره (ص) عن ارتكاب الذنوب؟! مع أن الرسول (ص) كان بين أظهرهم، يهديهم، ويرشدهم، ويدبر أمورهم .. فالقول بأنه بموت رسول الله (ص)، وبانقطاع نور النبوة عنهم صاروا عدولاً، بررة أتقياء، هو خطل من القول، وإهانة صريحة لمقام النبي 0ص) بل الطبع والعادة يقضيان بخلاف ذلك، كما تدل عليه الروايات الكثيرة الدالة على أن أقواماً، وطوائف من الصحابة قد ارتدوا على أدبارهم القهقرى، منذ فارقهم رسول الله (ص).
ومحط نظرنا هو قوله: ((منذ فارقهم)) الدال على حدوث الفتنة بمجرد موت الرسول (ص) لا أن موته صار سبباً لعدالتهم وتقواهم!! ..
ـ نظر الشيعة الإمامية إلى الصحابة:
وأما الإمامية فمذهبهم ـ على الإجمال ـ هو الترضي عن معظمهم. ولقد كان الإمام علي بن الحسين (ع) يدعو لهم في صلواته، وذلك لاتباعهم خطى نبيهم (ص) وعملهم بأوامره ونواهيه، منها هو (ع) يقول في صلاته عليهم: (( .. اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكاتفوه، وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له، حيث أسمعهم حجة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، وانتصروا به، ومن كانوا منطوين على محبته، يرجون تجارة لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته،وانتفت منهم القرابات، إذ سكنوا في ظل قرابته فلا تنس اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك، وبما حاشوا الخلق عليك، وكانوا مع رسولك دعاة لك. إليك واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، ومن كثرت في اعزاز دينك من مظلومهم. اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان، الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا .. )).
وغير خفي: أن هذه الدعوات بما فيها من الإعظام والإكبار، شاملة لمعظم الصحابة رضي الله عنهم، وأما آحادهم تفصيلاً فينظر في تراجمهم وتواريخهم، ويحاكمون بمقتضى العدل، والقول الفصل، وحكم القرآن، وكلام نبي الإسلام .. (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومَن يعمل مثقال ذرة شراً يره).
وأما على حسب أصول أهل السنة، فليس في الصحابة أحد يكون الشك في عدالته أو فسقه أو ارتداده معادلاً للشك في توحيد الله تعالى، أو في رسالة نبيه محمد (ص) أو في المعاد ..
وعليه .. فمن ناقش في علم بعض آحاد الصحابة، أو خطأهم في بعض أفعالهم وأقوالهم، حسب ما تقتضيه المقاييس الدينية، فإن ذلك لا يخرجه من الإيمان إلى الكفر، ولا من السنة إلى البدعة، إذ ليس آحاد الصحابة وأشخاصهم محور الدين، والكفر، والسنة والبدعة.
ـ الأخبار في عدالة الصحابة:
وأما الأخبار الواردة في الصحاح الستة وغيرها مما ورد في شأن طوائف كثيرة من الصحابة، بحيث يظهر من الأحاديث كثرتهم وكثافة جمعهم ـ أما هذه الأخبار ـ فنقول: إن كان أهل الحديث والسلفية ملتزمين بالأحاديث وبالصحاح لا سيما صحيح البخاري ـ كما يدعون ـ فليقولوا ـ والعياذ بالله ـ حسب أصلهم بكفر هؤلاء الصحابة، وارتدادهم بعد رسول الله (ص)، وإنه لن ينجو منهم غلا مثل همل النعم .. (كما ورد في روايات البخاري وغيره).
وأقبح من ذلك كله ـ في التحكم وفرض الرأي بلا دليل، بل ومع وجود الدليل القاطع على خلافه ـ اعتراض البعض على آخرين، وتشنيعهم عليهم لشكهم في عدالة الصحابة، فهم يؤاخذون عليهم، ويجعلون ذلك منهم عظيمة من العظائم وجريمة من أكبر الجرائم .. بينما هم بصحاحهم تلك يعلمون الناس كفر الصحابة، ويعلنون ارتدادهم!!.
روى الإمام مالك أن رسول الله (ص) قال لشهداء أحد: هؤلاء أشهد عليهم. فقال أبو بكر الصديق: ألسنا يا رسول الله إخوانهم؟ أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا! فقال رسول الله (ص): بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي؟! فبكى أبو بكر ثم بكى ثم قال: ((إننا لكائنون بعدك))؟!
وعلى كل حال .. فإن من الأخبار المشار إليها حول عدالة الصحابة .. ما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أم سلمة أنه (ص) قال: ((أيها الناس بينما أنا على الحوض جيء بكم زمراً، فتفرقت بكم الطرق، فناديتكم ألا هلموا إلى الطريق فناداني مناد من بعد فقال: إنهم قد بدلوا بعدك. فقلت: ألا سحقاً، ألا سحقاً.
وروى البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: بينا أنا قائم، إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله. قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى. ثم إذا زمرة (فذكر فيهم مثل الأولى) فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم.
وفي صحيح البخاري عن حذيفة: أن رسول الله (ص) قال: (ليردن على الحوض أقوم، فيختلجون دوني، فأقول: رب أصحابي، رب أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
ومن الواضح: إن هذه الكلمات لا تنطبق على عدة قليلة فقط. وليس المقصود بها مَن آمن بالنبي ورآه ثم سكن خارج المدينة المنورة ولم يعاشر النبي (ص) إذ لا يقال لمثل هؤلاء: ((الصاحب)) ولا ((الأصحاب)). وإن كان أصحاب الجرح والتعديل قد توسعوا كثيراً في مفهوم الصحابي ..
فإن إطلاق كلمة (الصحابي) على مَن رأى النبي (ص) ولو من بعيد تكلف واضح في اللفظ، وإخراج له عن معناه